الجزائر - A la une

بشير بريشي زرياب وهران الذي اختفى.!




بينما كنت ضيفة على إحدى القنوات التليفزيونية الفرنسية المعروفة فإذا باسم مخرج يتردد بهيبة و احترام بين الصحفيين و التقنيين. كأنه كبير مخرجيها وأهمهم شأنا..جميعهم تحت إمرته.. ينتظرون إشاراته وملاحظاته وتوجيهاته بحس يكاد يكون دينيا، فلا يهملون شيئا منها بل يطبقونها دون نقاش ولا تذمر أو تمرد وينتظرون استزادة. طبيعي فالمنافسة بين القنوات العالمية في استمالة المشاهد أضحت شرسة وتحتاج إلى أسلحة ناعمة فتاكة. أسلحة المعرفة الدقيقة في المهن. وحين جاء للسلام والتحية كانوا يلهجون باسمه:-مسيو بريشي ..مسيو بريشي.! إنه بشير بريشي . إنه ابن الجزائر . إنه ابن وهران. طائر ملون آخر صبر كثيرا على الرغم من الإهمال والنكران والإقصاء، ولأن كثرة الصبر جارحة فقد انتهى به الأمر إلى الرحيل. هاجر بشير بريشي مثل الكثيرين . تَرَكُوا أعشاشهم خاوية على عروشها. لا أعتقد أن هناك من بين المنتسبين لعالم السمعي البصري في بلادنا مَن لا يعرف بشير بريشي. إنه من الأوائل الذين عملوا في محطة وهران فور فتح سمائها. ولَم تكن محطة جهوية فقط بل كانت ترسل على الأمواج الوطنية، يجمّلها وجه وحضور وصوت ذو بحة نادرة تملكه المذيعة التلفزيونية الفاتنة (ليلى). بشير بريشي مازال يحتفظ بزهو و عناية بين أوراقه ببطاقته المهنية الأولى التي منحت له من التلفزيون الجزائري. إنها بطاقة انتمائه الأولى للتلفزيون بعد الاستقلال بصورة شاب عشريني يحلم بالجمال و ينعم بالذكاء، يمتزج فيها الألم بالأمل، كما يمتزج في الكأس سواد القهوة ببياض الحليب. دليل لذكرى موجعة بقدر جمالها. جميع من يشاهد عملا تليفيزيونيا للمخرج الكبير بشير بريشي يشهد له على سلامة عينه المبدعة اللاقطة لكل ما هو متميز .لكل ما من شأنه جذب انتباه المشاهد. أذكر أنه في بداية التسعينات كُلّف بإنجاز ريبورتاج عني للتلفزيون الجزائري بمناسبة صدور كتاب جديد لي (شجر الكلام) فيما أذكر. كان يقود فرقة من المصورين و مهندسي الصوت وتقنيين يعملون بهارمونيا عالية، وتفوّق قدرتهم على مقاربة الإبداع و الخيال عكس ما نشاهده هذه الأيام في القنوات العربية من مشاهد ذابلة متآكلة من كثرة التكرار، وكلوناج مقرف لبرامج أجنبية. كان بشير بريشي فخر التلفزيون الجزائري ومبدعا حقيقيا يقود في انسجام فرقة لا بد إلا أن تكون مبدعة هي الأخرى. لأن الإبداع يعدي . بشير بريشي صرف وقتا كبيرا ليصير مخرجا مبدعا يحترمه العاملون إلى جانبه . تعب لبناء نفسه وسلامة ذوقه، فهو فنان في كلامه وحركاته ولغته ولباسه وتصرفاته. مبدع في تعامله مع الآخر. مبدع حتى في بناء علاقات ودية وشفافة ومتينة مع أفراد عائلته ومع أصدقائه وزملائه. إنه مخرج لا تقل موهبته و احترافيته عن أي مخرج عالمي آخر بشهادة زملائه. ليس بالأمر الغريب أن يصبح بشير بريشي بهذا التميز، يحترمه الغريب قبل القريب وهو الذي عبر أجيالا متعاقبة، وبحسه المرهف ظل يستفيد من الجميع لتغذية ذوقه الفني النهم لكل جديد ومتميز. وبمرونته الاجتماعية تعرّفَ بشير بريشي على الكتاب والفنانين والمجاهدين، وصادق البسطاء من الحرفيين. فجمعته صداقات رائعة بالفنان أحمد وهبي و بلاوي الهواري وصباح الصغيرة و الشاب خالد و بلمو و عبد القادر علولة و كاكي.... تتربع على قلب بشير بريشي وهران مدينة أجداده. يحملها حتى وهو مكرم معزز من أهل الاختصاص في هذه البلاد الغريبة .يحملها حيثما ذهب.لكن بحسرة بيّنة. - أمازال بقلب المخرج المتميز بشير بريشي على أمل بالعودة إلى البلاد وبالحياة فيها؟ نعم تأكدت من ذلك . ماكان على المخرج المبدع بشير بريشي ابن وهران، العاشق المتيم لتاريخها ولجغرافيتها و عادات ساكنتها، و لأكلتها الشهيرة (كارنتيكا) ولمحطتها الجهوية وللتلفزيون الجزائري أن يترك المدينة و البلد نهائيا. نعم.. ماكان عليه أن يترك البلاد لو أنه وجد قليلا من الاهتمام والاعتراف والاحترام والمحبة والتقدير لإمكانياته وموهبته الفذة في مجال الإخراج التلفزيوني . كم تفتقده البلاد الآن قبل أي وقت مضى. إنها تحتاج لمعرفته لتوجيه هذا الجيل الشاب من المخرجين ملئى قلوبهم بالأمل، الذين تعج بهم القاعات الخلفية للبلاتوهات. تحتاج البلاد لابنها في خضم التنافس العسير في عصر الصورة وسلاح الصورة وهو العليم بتقنياتها الأشد دقة والأشد فتكا.
_ وي موسيو بريشي.. بيان سوغ موسيو بغيشي..! يستجيب الجميع لأوامره وملاحظاته وتوجيهاته . بعد أن سلم علي بحرارة وأدب عاد المخرج النشط بشير بريشي إلى مواقعه الاستراتيجية في تلك القناة الأجنبية الشهيرة، يديرها ويوجه عناصرها مثلما يدير المايسترو فرقة سمفونية ضخمة. الحق يقال فبقدر ما كنت سعيدة بالموقع المتميز الذي وصل إليه هذا الوهراني الجزائري الجاد و الذكي، إلا أنني كنت حزينة. و بشيء من الأسف تمنيت لو أن البلاد لم تخسره. وتمنيت أن يتوقف نزيفها الحاد الذي يفقدها أبناءها الهاربين نحو الغرب أو نحو الشرق.

سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)